Wednesday, May 24, 2006

مشيئة الوزارة

بالأمس كان الحدث التاريخي الفارق في حياة نسبة مؤثرة إحصائياً من المصريين ، لقد رأوا - ولأول مرة - وزير التعليم الذي دخل المنصب في أعقاب انتخابات العام الماضي .. لم أكن أتصور أن شعره أسود (ويمكن صابغه).. إلا أنه كسابقيه ، لا يكف عن تكرار الخزعبلات التي عكف من تعاقبوا على كرسيه الوثير على ترديدها ، ومن ضمن تلك الرطانة السمجة "الحرص على تكوين العقل النقدي".. أو حاجة زي كدة..وقد علمتنا ممارسات وزارة التربية والتعليم السابقة أن الوزير لا يعني - حرفياً - كثيراً مما يقول .. وإذا افترضنا حسن النية فهو يقوله .. للتموين!

مسألة العقل النقدي .. الذي يحلل ، ويناقش ، وينقد .. ذكرتني بقصة قصيرة لعمنا أحمد رجب حولت إلى فيلم سينمائي تليفزيوني باسم محاكمة علي بابا ، وقام ببطولته في منتصف الثمانينيات يحيى الفخراني وإسعاد يونس.. ويدور الفيلم عن مطلق تشكو له مطلقته من مشاكل أبنائهما الصغار الثلاثة .. وأحد الثلاثة طالب هددته المدرسة بالفصل على ما أذكر ، لأنه تجرأ وانتقد شاعراً قديماً (البحتري أو أبو تمام) لأنه منافق.. وأسانيد الطالب في ذلك قوية .. ففي الوقت الذي يدرس فيه قصيدة للشاعر المذكور مادحاً كافور الإخشيدي ، وجد في نفس المنهج قصيدة لنفس الشاعر يهجو فيها كافور الإخشيدي فقط لأنه لم يجزل له العطاء.. وعندما جاء الفخراني لمناقشة ذلك الأمر أصر مسئولو المدرسة على أن الطالب ضبط بالجرم المشهود وهو معاداة مشيئة الوزارة..

وقد مررني هذا المشهد المرير إلى فيلم غزل البنات للريحاني ، حين سألت إحدى التلميذات الأستاذ حمام (=الريحاني) : هوة الأسد بيتكلم!.. فرد عليها الريحاني غاضباً : أيوة بيتكلم .. وزارة المعارف العمومية عايزاه يتكلم!

أذكر وقت أن كنت طالباً في الثانوية العامة قبل أحد عشر عاماً أن الوزارة قررت أخذ النخبة المثقفة على قدر عقلها وبدأت تسأل الطلاب في الامتحانات عن آرائهم في نصوص أدبية و في مواقف تاريخية.. ولأن الفكرة ليست جادة فقرروا تنفيذها على طريقة السئيل الذي دعا شخصاً في بيته (تشرب شاي ولا قهوة.. أنا عندي قهوة محوجة معتبرة جايبها من الإمارات.. دي علية القوم هناك بيشربوا منها...) وعندما يقبل الضيف بعد طول خجل وتمنع يقول له السئيل (معلهش أصل البن خلص .. ح أجيب لك كباية شاي!)..واللعبة بسيطة : أدلِ برأيك..لكن حسب الكتاب.. إن قال الكتاب ولا الضالين قل وراءه آمين.. كخ يبقى كخ .. دح يبقى دح.. وشيل الواوا أح!

وعليه .. كان وقتئذ يدرس لي كتاب "شوقي شاعر العصر الحديث" الذي كتبه أحد أعلام الثقافة العربية الراحل الكبير شوقي ضيف ، والذي كان منحازاً طوال الخط لسميه أحمد شوقي ، وفي امتحان آخر العام جاء سؤال عن موقف العقاد من بيت لشوقي (وكراهية العقاد لشوقي معروفة).. ورأيت أن العقاد محق بخبرتي المحدودة .. لكن لا .. لا لا لا لا لا لا اللا (مع الاعتذار لخضرة محمد خضر)..فالكتاب الذي أقرته وزارة التربية والتعليم ، اللي خلت الأسد يتكلم في فيلم نجيب الريحاني ، ينص على أن أحمد شوقي دائماً على حق.. وعليه فمن الصعب أن أقول له لأ..

أنا قلت رأيي ، وجبت على ما أذكر 38 من 50 ، وتلك الدرجة في ذلك الوقت 1995 لم تكن بذلك السوء..

يبقى أن تقليد عزومة المراكبية متبع في مناهج تاريخ الثانوية العامة المعدلة ، ومن العادات المرذولة في مادة التاريخ بالذات سؤال الطالب عن رأيه ، خاصة في المواقف التي لم تتضح فيها مشيئة الوزارة .. وعليه فمن الممكن أن تسأل طالباً عن رأي في واقعة ما في الحقبة الليبرالية فيقول الرأي الذي حفظه له مدرسه الخصوصي الوفدي ليكتشف بعد الامتحان أن مشيئة الوزارة ناصرية حريقة!..

والأكثر ابتذالاً أن السؤال نفسه يأتي بصورة أخرى : ماذا تقول (مثلاً) لمحمد علي بعد معاهدة لندن 1840؟..وربما ينصحك مدرس خبيث بأن تكتب الآتي في ورقة الامتحان : ولما أقول له آه.. يقول لي هو لأ.. يجرحني وأقول له آه .. يقولي برضه لأ.. لأ..لأ..لأ!.. صحيح أن هناك ناصريون ومنتمون للتيارات الدينية مرشقين في وزارة التربية والتعليم .. لكن من المستقر تربيةً وتعليماً على الأقل أن مشيئة الوزارة لا تتضارب- حتى الآن - مع مشيئة روبي!

8 comments:

abderrahman said...

تعرف..
البوست جميل ويحمل معاني رائعة .

لاحظن أن أكثر الحديث كان عن الامتحانات، ومحاولة إظهار روح النقد من خلالها، غير أن هناك مرحلة سابقة أكثر أهمية من خلال الدراسة طوال العام عبر تدريب الطلبة بواسطة المعلم .

وهنا يأتي دور المعلم الذي يجب أن يكون أصلا على دراية بأساليب التفكير النقدي ... هذا إلى جانب أن إدارة المدرسة يجب ان تكون مؤازرة للمعلم .
**
مرحبا بأفكارك الجميلة

قلم جاف said...

مرحبا بعبده باشا ضيفاً على "الصحافة فين التعليم أهه".. وسررنا بزيارتك.. وأتمنى ألا تكون الأخيرة..

معاك حق .. لكن ..
لكن في بلد كله بيروقراطي ، بيخضع لسيطرة فكرية بيروقراطية ، إزاي يقدر المعلم - اللي هو برة الدرس طبعاً موظف صغير - يكون عنده دراية بالتفكير النقدي..
لفتت نظري لأمر في قمة الخطورة ، وهو ثقافة المعلم ، أنا تعاملت قبل الثانوية العامة وبعد ما خلصت كلية تجارة 1999 حتى مع معلمين .. سواء جوة المدارس أو في الدروس الخصوصية .. ولاحظت ضعف ثقافة عدد كبير منهم العامة (بشئون المعرفة العامة).. وكمان حتى ضعف ثقافتهم اللغوية ، فيه كلمات مبيكتبوهاش صح.. فيه مدرس فرنساوي كاتب كلمة "مسئول" في مذكرة ليه "مسئوال"!.. وربما تلاقي "الذرة" مكتوبة "الزرة".. لو الكلام دة على كيبورد أمر طبيعي.. لكن الكلام دة بخط إيدهم.. مهارة الكتابة عندهم عيانة يا حبة عيني!
اللي مبيعرفش يكتب ، إزاي حيقرا في مجاله هو حتى لزيادة معلوماته عنه ، وإزاي حيقدر يثقف نفسه ويعرف أهمية العقلية النقدية في التعلم ، وحتى لو الوزارة اتصرفت بشكل جاد (ودة بأؤكد استحالته) وقررت إنها تدي كورسات للمعلمين.. حيستجيبوا؟ إدارة المدرسة حتستجيب؟ أشك..أفتكر في ثانوي وصل الأمر بمدير المدرسة إنه بيجري ورانا بالخرزانة في قلب الملعب لأننا تجرأنا على اللعب في حصة فاضية!
تفضل خايف تناقش مدرسك في الفصل وتتمرن على كدة علشان دكتور الجامعة يستلمك عضمة طرية ويحسسك إنه له ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته ..
لازم وقفة مع النظام التعليمي كله..

Veeeva said...

u r certainly pissed off... that's obvious i know.
but i honestly never really thought the situation is that bad!

OMG! ana '3aleban kont f '3ybooba.

Ossama said...

انت كمان خريج تجارة
كده معقول بتوع تربية صعب قوي
ماشي ياعم
التعليم انبط من ايام عرابي
الانجليز شالوا المدافع والطوايى وشالوا معاها الدماغ اساسا

قلم جاف انت راجل جدع بوست جميل جدا
ابقى تعالى اشرب شاي على قهوة حنتيرة
وسلم لي ع العولمة ولا اقول لك على راجل في زمن ام العولمة حاجة تقرف فعلا

قلم جاف said...

من ناحيتي ما عنديش مانع أشرب شاي على قهوة حنتيرة ، بس المشكلة إني متعقد من الشاي الكشري اللي بشربه في القهاوي اليومين دول..
وبرغم من أني دلتاوي إلا أنني من المنحازين للشاي الثقيل شبه الحبر المنسوب إلى الصعيد الجواني:-)

Ossama said...

ليه بس كده يا قلم جاف عندك طموحات بورجوازية عايز تبقى قلم حبر والا ايه؟؟

انت راجل جميل والبلوج ده مهم جدا بالمناسبة
اشكرك

قلم جاف said...

أخجلت تواضعي يا أستاذ أسامة .. ونعدك بعون الله إنك - بجد - مش حتقدر تغمض عينيك (لأن هالة سرحان مش هنا)!

قلم جاف said...

الغرض مش الاحباط ، الغرض فقط التنبيه للي بيحصل وإثارة انتباه الرأي العام ليه ..

عارفة صفحات التعليم في الجرايد الحكومية اللي كان كلها افتتاحات وإغلاقات وإنشاءات وتصريحات ، كانت فاكرة إنها بتخبي المشاكل الحقيقية اللي بتحصل لآحاد الناس من النظام التعليمي المتخلف المسئول عن رمية معظم جيلي في الشارع.. ولو كانت الحقائق اتعرت ووصلت للمسئولين وقتها كان فيه حاجات كتير كانت حتتحسن..

من جهة الطالب .. الحل انه يتعلم صح ، يفكر ، ويحلل ، ويستنتج ، ويدرس ، غصبن عن عينين دعاة الصم في مبنى وزارة التربية والتعليم .. علشان ما يخسرش ورقة التوت الأخيرة .. عقله..ولو كان رابسو وشلته عايزينني كمواطن أستف المعلومات جوة الجمجمة وأكبس عليها وأنساها أنا بقى مش عايز كدة .. لأني مش ح أكون مفيد لمجتمعي ولبلدي إلا إذا شغلت دماغي وفهمت..