Monday, February 27, 2012

جريمة نجاح

خبر قرأته على موقع "العربية" نقلاً عن "الحياة" اللندنية : تدريس حياة لاعب كرة القدم "ماجد عبد الله" في المدارس..


قد يثير الخبر حفيظتك ، قد أسمع إكليشيهات من عينة "شوف اللعيب خد كام واللي بيذاكر خد كام" ، "ما لقيناش إلا اللي زي دة" ، "ما البلد مليانة نماذج تانية أحسن" ، و...و...


لنفكر في الموضوع بهدوء .. فيك تسمعني؟


المشكلة الوحيدة الجدلية بالنسبة لهذا الرجل هو كونه ينتمي للعبة بها نوع من التنافس أو التعصب في هذا البلد وفي بلاد أخرى غيره ، أما لو كان لاعب ألعاب قوى مثلاً فبالعكس ، أنا مع اختياره لأقصى مدى متاح..


نحن قولبنا كل شيء ، حتى النجاح وضعنا له قوالب ، قسمنا مجالات الحياة ، وقمنا بتنميط سلوكيات المشتغلين فيها ، وربط صور ذهنية معينة بهم وبها ، كما قسمنا التعليم في مصر اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وطبقياً وبتنجانياً ، واعتبرنا أنه لا يليق إلا في مجالات بعينها دون أخرى ، رغم أن كل المجالات فيها فرص للعمل الشريف ، والجد والاجتهاد ، وبالتأكيد النجاح ، سواء النجاح الفردي نتيجة لموهبة أودعها الله عز وجل في شخص أو مجموعة أشخاص ، أو النجاح المؤسسي الذي يقدم مؤسسة تخرج ناجحين أو تصنع نجاحاً جماعياً ، من العادي ومن الطبيعي أن نجد طبيباً ناجحاً ، ومهندساً ناجحاً ، ورياضياً ناجحاً ، وأديباً ناجحاً ، ورجل أعمال ناجح (لا يسرق ولا يشتغل في السياسة لإخفاء سرقاته وغسيل سمعته زي ناس كتير قوي) ، وفناناً ناجحاً..


نحن لا نزال نتعامل بعقلية "قوم ذاكرلك كلمتين ينفعوك" ، نقوم بتحشير الأجيال القادمة في مطحنة ما يسمى بـ"مكتب التنسيق" لعنه الله ، يا دكتور يا مهندس يا صيدلي ، غير كدة تبقى صايع وضايع ومالكش مستقبل، و"قوم ذاكرلك كلمتين ينفعوك" ، ومنها "عايز تشتغل لي كذا؟ .. يبقى ** على تربتي لو يوم فلحت يا بعيد".. رغم أن الشاب يجد نفسه في هذا المجال أفضل وأنجح ، ورغم أن قدراته تشجعه على العمل في هذا المجال والنجاح فيه.. ورغم أن سلوكياته وتربيته ومبادئه تساعده على أن يبقى محترماً ولا يتلوث بأي شكل..


حتى في حديثنا عن القدوات والنجاحات لدينا أفكار غريبة ، نصرخ هستيرياً وراء من يقول "مش عيب على أجيال تعرف فلان أكثر من علان ، رغم إن فلان كذا وكذا أما علان فابن كذا وكذا" ونتناسى أنه في كل دول العالم هناك مجالات تبقى أكثر شهرة من غيرها بحكم علاقتها بالناس ، من العادي أن أعرف "سيد حجاب" أكثر من "فؤاد حداد" مثلاً لأن "حجاب" - وهو من قمم شعر العامية المصرية - يكتب تترات مسلسلات تليفزيونية تسمعها الناس وأصبحت بمثابة دواوين شعرية مسموعة ، عكس من يبقى إنتاجهم موجهاً للصفوة والمثقفين ، أو أن أعرف "حجاب" أكثر من عملاق كـ"أمل دنقل" ، لأن "حجاب" شاعر عامية وبالتالي فإن إنتاجه معروف لدى عامة الناس من شاعر فصحى ، دون تقليل من أي من هذه القمم الثلاث ، بالتالي لا حرج في أن أحتفي بـ"سيد حجاب" ، أو أن أدرس (بضم الألف وفتح الدال وكسر وتشديد الراء) ، إن أمكن تدريس الشعر العامي ،بعض أعماله كما أدرس لآخرين .. هل لمجرد أن فلان معروف أو يعمل في مجال جماهيري يكون ذلك أدعى لاعتباره تافهاً ونكرة؟ لماذا لا أحترم نفسي باحترام الجميع؟


نحن نتعامل مع النجاح كجريمة ، ومع ناجحين حقيقيين كمجرمين ، رغم أننا نحتفي في بعض الأحيان بمجرمين حقيقيين ، من أمثال لصوص المال السياسي وبعض النماذج السيئة في المجال الإعلامي ، وبعض المتلونين في مجالات فكرية وأدبية على مستوى المثقفين أو العامة ممن هم سبة حقيقية في جبين مجالاتهم والمشتغلين فيها ، تعم فواحشهم أي مجال فتسيء للمحترمين فيها..


في دول كثيرة هناك فخر بكل ناجح ، يفتخر اللبناني مثلاً بكل نموذج لبناني نجح بحق وحقيق في أي مجال كان ، ويجعل من نجاح تلك النماذج حافزاً له لدخول المجال والنجاح فيه ، يفتخر بفنونه وعلومه وأدبه وكيميائه وفيزيائه ورياضياته .. من حق المصري أيضاً أن يفعل هذا الشيء..


قد يقول قائل أن هناك عثرات أخلاقية لدى البعض ، هذه نقرة أخرى ، يستطيع القائمون على التعليم ، ونستطيع ، أن ننتقي نماذج تعد قدوات أخلاقية ، كعامل تربوي ، لدينا عدد كاف وكبير نشير لأبنائنا ونقول لهم هذا هو فلان وهذا هو علان وهذه هي بلدك التي أنجبت كل هؤلاء الناجحين والمجتهدين..


لا زلنا نتعامل بمنطق "إن قابلني لو نجحت" ، حتى ونحن نقابل الناجحين الذين اعتبرناهم فشلة بعد أن نجحوا فعلاً.. ما دمنا نتعامل مع النجاح كجريمة فمن الطبيعي أن نكون علاقة صداقة حميمة مع الفشل ونستعذبه ، رغم أنني عن نفسي لا أجد فيه أي شيء جميل ، لربما كان العيب في شخصي المتواضع كعيوب أخرى أعرفها ولا أنكرها..