Tuesday, August 23, 2011

قداسة "كتاب الوزارة"

خطرت على دماغي خاطرة صغيرة قد تبدو غريبة وقد لا يبدو الوقت مناسباً لذكرها..لكن .. أهو.. تبقى مجرد محاولة متواضعة لفتح ملفات ثلاثين عاماً من ألغاز وفوازير التعليم في مصر..


"كتاب الوزارة" و "نماذج الوزارة"..


كتاب الوزارة هو "كتاب" "الوزارة".. الكتاب المقرر عليك دراسته ويكتسب حجيته وقداسته من كونه "كتاب الوزارة" ، في وقت كانت فيه "الحكومة" في مصر صنماً وتابوهاً لا يجوز مجرد التفكير في نقده فما بالكم بانتقاده.. كل ما في كتاب الوزارة حقيقة لا تقبل النقاش ، حتى مع زعم صناع الكتب وزعم الرابسوهات أنفسهم بأن الهدف هو تكوين ملكة التفكير النقدي لدى الطلبة ، المغلوبين على أمرهم..والذين لم يستطيعوا مجرد التفكير في الخروج على نص الكتاب المدرسي الرابسوماتيكي حتى وإن طلب إليهم إبداء الرأي في سؤال في الامتحان ، على طريقة عزومة المراكبية..


متقادم ، بدائي ، مليء بالحشو ، سيء العرض ، غير واضح الهدف ، لا يزودك بمهارة ، كل تلك الترهات لا قيمة لها ، فمن يفكر في تلك الأشياء متهم بمعارضة "سياسة البلد" التي اختارت لك "كتاباً" لا يعرف له الخطأ طريق جرة..


ولأن كتاب الوزارة محاط بتلك الهالة من المصداقية التي تلتصق بكل شيء مرتبط بـ"الحكومة" ، فكان فرصة في عهد "فتحي سرور" لتحميله ، وبشكل كليش ، بالهدف الواضح الذي ارتضته الوزارة من النظام التعليمي ، "خلق الشخصية المصرية المش عارف إيه ..." أي حنجوري من أجل تعبئة الليلة ، وأياً كان الهراء المكتوب على الغلاف الخارجي الخلفي للكتاب فهذا الهراء هو عين الصواب ولا تجوز مناقشته ولا التفكير فيه..


وقد يدافع مدافع عن حقبة "فتحي سرور" التي خرجت علينا بشيء لا يوصف بعبارات مهذبة اسمه "الدفعة المزدوجة" ، أيضاً من باب "كتاب الوزارة" وقرارات السيد الوزير وسياسة البلد ، ويسهل الرد عليه بأن تلك الطريقة من التفكير التي روج لها النظام التعليمي السابق في فترة الثمانينات هي أكبر دليل على كذب كل ما كتب على أغلفة كتب الوزارة في ذلك الوقت ، المطلوب ليس شخصية مصرية ولا ملوخية ولا مهلبية ، المطلوب تكوين عقل منقاد يسهل توجيهه ، مؤهل لأن يكون قطعة شطرنج توضع في أي مكان ، أي مكان يريده النظام السياسي ، عقل غبي لا يقل عنه غباءً العقل الرابسوماتيكي قاصر الخيال جاهل السياسة ، الذي تخيل ورتب أموره على أن الانغلاق السياسي ، وتوافر كل أوراق اللعبة وأدوات الإنتاج والإعلام في أيدي النظام كلها أمور أبدية لا حد لها ، حتى مع ترويج النظام السابق لفكرة التعددية الحزبية في فترة الثمانينات ، التي شهدت بداية سقوط التعليم المصري ..


كانت الرابسوماتيكية جزءاً من المباركية ، التي تعتمد دائماً على أن تخبر الرأي العام وتلقنه شيئاً ، وأنت تنفذ شيئاً آخر ، وعلى يقين أن الناس لا ، ولم ، ولن ، تعرف الفرق.. تجد لاحقاً في عهد "بهاء الدين" عبارة على ظهر الكتاب تقول "ليس بالحفظ والاستظهار ولكن بالفهم والتحليل ...." في حين يواصل تقديم كتاب الوزارة كحقيقة مطلقة ، وفشقةً بيك يا رمضان سنوفر لك ما يساعدك على فهم تلك الحقيقة المطلقة التي ستدخل بها الامتحان وستحصل منها على الدرجات لكي تغور في ستين داهية من النظام ليدخل بعدك آخرون: نماذج الوزارة ، التي هي أقوى من الكتاب الخارجي ، لأنها "نماذج الوزارة" التي لا يخرج منها "الامتحان"..


عدة آثار ترتبت على ترسيخ مفهوم قداسة الكتاب المدرسي في العهد المباركي سياسةً الرابسوماتيكي تعليماً:


1-الخلط التام بين ما هو "معرفة" و"مهارة" وما هو "حقيقة" أو يعد لأن يكون حقيقة .. بمعنى أصح كل ما في الكتاب حتى من آراء هو حقائق لا تقبل النقاش ، وبالتالي فإن المسكين عندما يكبر قليلاً في السن وتسول له نفسه الأمارة بالسوء دخول مكتبة ما في كلية ما ، أو وقف أمام كشك جرائد أو في مكتبة ليجد كتباً تتناول حقبة من تاريخ مصر بوجهة نظر مختلفة عن كتاب الوزارة فستتولد لديه مقاومة عنيفة لفكرة أن يكون هناك تصور آخر غير تصور "الحكومة" التي لا تخطئ(1).. لاحقاً تغيرت تلك الصورة عندما تحولت السياسة المصرية من نقيض إلى نقيض ، وتحولت بالتالي الحكومة والدولة فيمَ بعد من صنم وتابو إلى شيء يضرب بالسابو..


2-ولأن كل ما كان المرء يدرسه حقيقة مطلقة ، ولأن النظام الرابسوماتيكي الذي "اشتغل" المصريين ينادي بالفهم ويأمر بالحفظ ، ولأن المكانة الاجتماعية وكليات القمة و...و... تتطلب الإلمام التام بتلك الحقيقة ، طغى التلقين على العملية التعليمية داخل المدارس ، وفي نظام التعليم الموازي سواء الكتب الخارجية أو الدروس الخصوصية ، التي تستمد مرجعيتها من الكتاب المدرسي النظامي الحزبوطني الحكومي الـ... الـ.... الخ..


3-أعطت "قداسة الكتاب المدرسي" وارتباطه بالسلطة نوعاً من الأمان للأهالي بشكل غير مباشر عندما تحدث المواجهة إياها عقب كل امتحان شهادة عامة ، ولا ينسى الرابسوماتيك ترديد التوشيح الرابسوماتيكي الشهير "كل أسئلة الامتحان جاءت من كتاب الوزارة ونماذجها" -قبل أن تضاف عبارة "ولم يخرج عن نماذج "الجمهورية""-وبالتالي فالامتحان في حماية الحكومة ، ولا يخضع لأهواء واضعه أياً كانت خبرته ، ولذلك فإن تاريخ الثانوية العامة طوال العهد المباركي حفل بصدامات كان سببها محاولات صناع الامتحانات "الخروج على النص" .. سواء أكان هذا الخروج إيماناً بأن الامتحان يختبر معارف ومهارات رسخها الكتاب لا نص الكتاب بحذافيره ، أو كانت فذلكة وغرور زائدين لدى البعض من واضعي الامتحانات أرى عن نفسي أنه ليس من الحصافة بمكان إنكاره..


ربما ترون ، وبالذات من هم أصغر مني سنا ، الأمور بشكل مختلف ، أو ترون أن الصورة قد تحسنت ، أو بقيت كما هي عليه ، أو ازدادت سوءاً ، وهذا ما أريد أن أعرفه منكم بما أني أكتب تلك التدوينة انطلاقاً من تجربة عايشها جيلي في الثمانينات ، في فترة تكون "الفكرة المباركية" كما يصفها البعض ، قد تختلف عن التجربة التي تعايشونها وعايشتموها .. لكن يبقى ما تقرره الوزارة على الطلاب في مراحل التعليم المختلفة ، وثيق الصلة تماماً بحال السياسة والاقتصاد والحريات في بلد بأكمله..

(1) والمذهل أننا نجد في الإعلام الخاص من يتغنى بأن حكومات الثمانينات لم تخطئ .. وأبسط رد على هؤلاء عبارة "إن الله حليم ستار"..