هناك العديد من المهارات يمكن أن تكون مقياساً لتقييم أي نظام تعليمي ، ومن ضمنها مهارة القدرة على التعبير .. مهارة أخرى فشل النظام التعليمي في توصيلها لطلبته وبامتياز..
في الوقت الذي يفترض بالنظام التعليمي أن يمرن طلبته الذين سيخرجون للحياة العملية يوماً ما على استخدام اللغة في التعبير عن الرأي وعن النفس ، إذا بنا نجده يحول التعبير إلى كنج كونج آخر يخشى الطلبة المرور من نفس الشارع الذي يمر منه..الأمر الذي جعل أولياء الأمور يبحثون مع المدرسين عن مواضيع التعبير "المتوقعة" لهذا العام ، بل ويرغم أولياء الأمور والمدرسون طلبتهم على حفظ مواضيع تعبير كاملة.. تخيلوا!
ولأنها "مش سايبة" فلازم الطالب يحفظ الخطة بحذافيرها علشان يتفرغ لدش النحو والصرف والأدب والبلاغة بما يرضي الله وبذمة وبضمير ، أول حاجة تخش له بجملة افتتاحية من الأستاذ حصص حفظهملك في المجموعة ، وبعد كدة في النص ترزع له بيت شعر من اللي انت حفظتهم في الدرس أو في كتاب الوزارة أو في أي داهية ، وبعد كدة "تحبس" بالجمل الختامية ، أي واحدة من الخمسة وعشرين جملة اللي محفظهملك المستر (حتى مدرس العربي بيتقال عليه مستر.. يا للمهزلة اللغوية!)..وعموماً المستر بيقول لك اتوصى بعلامات الترقيم ، وبعد كل جملة حط فصلة واقفل بنقطة وخلص نفسك .. والمستر كمان علشان راجل straight man مديلك كام بق تعبير تحفظهم عن الإرهاب والسياحة وتعديل المادة 76 من الدستور.. أصله سمع من الجن اللي محضره الشيخ كبارس (جن حزب وطني من بتوع الفكر الجديد وبيقولوا واصل قوي ويعرف رابسو شخصياً "اللي حينضف الوزارة") إن دول جايين في امتحان السنة دي!
فكرة حفظ موضوع التعبير كوميدية بما يكفي ، لكنك لن تضحك عندما تعرف أن حصة التعبير طوال العام تلك تبدو كما لو كانت مقرراً جديداً يظهر قبل الامتحان فقط ، فحصص التعبير كما تقول تجربتي الشخصية كانت مجرد حصص يعطينا المدرس الفاضل فيها موضوعاً لنكتب عنه دون أن نتناقش فيه ، وبينما يتفرغ الطلبة للكتابة يتفرغ المدرس للرغي مع زملائه ، أو للغط في سبات عميق!
هذا إهمال.. أليس كذلك؟
لكنه مجرد حلقة في المسلسل يا سادة..
فاللغة تدرس للطالب منذ الابتدائي بكل إهمال ، قراءةً وكتابةً وفهماً ، وفيما بعد ومع حصص النحو والصرف والبلاغة تتحول اللغة ودراستها إلى صورة من صور التعذيب ، وبالتالي يكره اللغة وقراءتها وكتابتها والشعر والنحو والبلاغة والصرف..
النتيجة : مذيعون وصحفيون يرفعون المنصوب وينصبون المجرور ويضربون المرفوع بالجزمة القديمة ويجعلون المبني للمجهول مختلاً عقلياً، وأخطاء إملائية مخجلة يقع فيها أساتذة جامعة وساسة ومدرسون ، والأهم لجوء قطاعات كبيرة من مجتمعاتنا للسب بالأب والأم والدين وكل شيء ، وربما يختصر بعضنا الطريق عملاً بالبيت القديم "السيف أصدق إنباءً من القلم" ، ويشيل مطوة قرن غزال مصدية في جيبه علشان لو حد كلمه كلمة يطلعها ويدي له..
والمضحك أن التعبير لا يزال يسمى لدينا "إنشا" ، والكلام الفارغ في مصر يطلق عليه أيضاً "إنشا".. وبالتالي فإن أول ما يقال لك عندما تثير تلك القضايا حتى في قلب الشارع : يا أخي عيش عيشة أهلك وبلاش كلام الإنشا دة!
وطالما الحال على هذا المنوال ، يبقى م الآخر ولا حاجة في عيشتنا ولا عيشة أهالينا حتتغير..