إذا كنت في مصر فاعلم أن كثيراً من الأشياء تستخدم في أي غرض كان إلا الغرض الذي يفترض أن تكون قد صممت خصيصاً من أجله.. وستكتشف كم ينطبق ما ذكرت على المدرسة .. افتح فقط أي برنامج حواري يعرج على سبيل فك الزهق على شئون التعليم في مصر ستجده يتحدث عن نظافة المدرسة وجولات السيد الوزير واعتصامات المعلمين و..و..إلا التعليم..
يوجد مثل إنجليزي شهير جداً يقول : no news..good news..أي أنه طالما لم نسمع عن مشكلة هنا أو هناك فالأمور مية مية مثل فراخ الجمعية .. لن أسأل هنا عن المدارس التي تحتل أماكن على صدر صفحات الصحف الأولى لصحف المال السياسي بقلقها وقلاقلها.. بل على الذين تسير الأمور لديهم على ما يرام..بالبلدي : الناس اللي في المدارس الهادية الطيبة الحلوة اللي بتسمع الكلام بتتعلم إيه؟
1-أهم شيء يمكن أن تتعلمه في المدارس المصرية حالياً هو الاحتكام إلى قانون الشارع.. وللشارع كما لا يريد الكثيرون أن يعلموا قانون به عدد كبير من المواد والقيم التي تولي مكانة رفيعة لاستخدام "الدراع" في الحصول على أي حق ، أو باطل حتى ، وفي الانصياع لإرادة الأغلبية أياً كانت ، وفي التشلل - الانضواء تحت لواء أي شلة أياً كانت داخل محيط الفصل أو المدرسة أو ..أو..والسبب أن الدنيا لا تعترف عادةً لا بالضعيف ولا بالمؤدب.. وليس فيها مكان لأي منهما..
وأهم قيمة على الإطلاق هو قيمة "الاحترام" بمعناها الشوارعي .. كما لخصتها لعبة GTA في نسختها الثانية : Respect is everything..تقعد باحترامك مطيع طيب كميل حتبقى فترة الأوبرج بالنسبة لك نعيماً مقيماً.. غير كدة يا حلو تستاهل كل اللي حيجرالك..والاحترام طبعاً طبقاً لقانون الشارع غير المكتوب يكون للأقوى .. أياً كان سنه ، وحجم قوته.. والاحترام يمكن وصفه بأنه عملية إبدالية وليس تبادلية.. أي يمكن للطالب أن يفرض احترامه على زميله ، أو على مدرسه ، ويمكن للمدرس أو للناظر أن يفرض احترامه على الطلاب ، أو على المدرسين.. لكن لا يمكن لأي من هؤلاء أن يحترم بعضهم بعضاً..إلا من رحم ربي..
2-الشيء الثاني الذي ستتعلمه حتماً هو اللغة .. بعيداً عن اللغات التي يعلمها لك منهج التعليم الرابسوماتيكي .. فإنك ستتعلم لغة أخرى جديدة كانوا يقولون لنا في البيوت أنها والعياذ بالله "قلة أدب".. وستكتشف تدريجياً أن تلك اللغة "البذيئة" هي الوسيلة الأمثل للتواصل مع العالم المحيط ، وتؤدي نفس وظائف "اللغة التقليدية" بشكل أفضل وأكثر دقة.. وتملك قوة تعبيرية ومرونة فائقة في استخدامها.. قبل دخولي الثانوي لم يدر بأقصى خيالاتي شراً أن أسمع أناساً يمزحون مع بعضهم بسباب الدين والأم.. وإذا كان هناك من قال في وقت سابق بأن "الرجولة أدب".. فيرد عليه بالقول بأن الدنيا حالياً صارت لـ(الـ....)!
وقلة الأدب داخل المدارس المحترمة أشبه بعلاقة البيضة والدجاجة في تحليلها.. فلا تعرف من الذي بدأ بقلة الأدب أولاً.. ولأن البادئ أظلم فلا تعرف من هو الظالم من المظلوم..
قد يتهمني البعض بالتحامل ، وقد يتهمني بأنني أتحدث عن خبرتي أنا عن المدارس .. لكن مما أسمعه وأعايشه لم تختلف الأمور كثيراً ، بل صارت أكثر سوءاً.. ولكنه ليس هذا النوع من السوء الذي يستلزم أن يكتب عنه في مقال صحفي أو يهز مراسل برنامج توك شو طوله من أجل تسليط الضوء عليه .. ويبدو أن هناك "راحة مجتمعية" وليس فقط "راحة إدارية" للإبقاء على هذه الأمور كما هي (عيش عيشة أهلك ..حتنهب؟ كل الناس كدة وكل العالم من حواليك كدة)..
ثم تقوم الدنيا ولا تقعد عندما تخرج الأمور عن قيد السيطرة ، لتتحول إلى خبر هنا أو فضيحة هناك.. إما أن تكون فضيحة مسخسخة يصعب على أي شخص السكوت عنها أو عليها ..وإما أن تكون فضيحة مُصَنَّعة قصدها تسليط الضوء على تجاوز يحدث في مكان ما لمجرد أنه يحدث في المكان الما رغم حدوثه في كل مكان.. كإنه هنا عيب وهناك عادي.. فاهمين طبعاً..وطبعاً نمصمص الشفاة على حال التعليم زمااان.. وترى شاباً هنا أو هناك يصغرني بعشر سنوات على الأقل يتحدث عن التعليم في الأربعينات والخمسينات والستينات (اللي ما لحقاش ولا أنا لحقتها) وأيام "رفاعة الطهطاوي" (الله يرحمك يا طهطاوي.. ويخليك لينا يا "زكي جمعة")..
هذه هي معايير "الاحترام" لدينا.. هل تتوقعون أن يتغير التعليم إذا كانت معايير "الاحترام" لدينا ، ولدى صناع القرار على حد سواء معايير غير محترمة أصلاً؟